تخطى إلى المحتوى

سَمَاء الفطر

جانفي 17, 2022

لربما بعضكم يعلم برغبتي الجامحة في الكتابة، ولعلّني أكتب اليوم بسببكم أنتم، بسبب وجودكم الممتنّة لأجله حولي. فأنا تناسيت أنّي أقرب لنفسي عندما أكتبني، لأنّي ألتقيني مرّة أخرى، وماأجمل اللقاء وأبهاه. مدونتي التي لم تتركني لليوم، ولا حتّى زوّراها ولا جمَال زواياها وذكرياتها. وما جعلني أزورني هنا هوَ العتمَة التي غمرتنا أجمعين، فأنا في أمس الحاجة أن أراني من الداخل بحروفي هنا، فالمرايا لم تعد تريني شيئًا يشبهني.

ولأنّي بحثت كثيرًا عن النور، حقق الله ذلك بذاكرتي الصغيرة مع جدّي.

كنت في شُرفة جدّي نقرأ ونتحدّث عن ما يرغب أن أتحدّث عنه وعن ما لا يرغبه. كان بعمر الثامنة والتسعين، في أتمّ صحته وقوّته حتّى أنّي كنت أظن أنّه من الطبيعي جدًا أن يقترب الشخص من المئةَ سنة وهوَ يسابق ويجري، ويسقي الزرع ويهذّبه، ويؤذن ويأم الناس، يقطع المسافات والمدن ليطمئن على أبناءه وأحفاده. كان شابًا في جسدٍ وروحٍ شابّةٍ أيضًا، لم يكن عمره إلاّ رقمًا لم يصدِقه الناس عندما توفي في العام الثاني بعد المئة. ذلك اليوم هوَ اليوم الذي بدأت أقلامي ترتجف فيه على كل الأوراق التي أجدها أمامي، حاولت أن أجدَهُ وأستجديه، أن أُناديه، لكنّي ضعت، ولم أجدني ولم أجد ذكرياتي معه موثّقه لا في صورَة ولا في كلِمة. كأنّه وضع ممْحَاة في ذَاكرتي. حاربتها تِلك الممْحاة ولكنّها مسَحتني وذَاكرتي معًا.

وبعد قُرابة الخمْسَة عشر سنَة وعلى مرّ السنوات الأخيرة، تتوقف الممْحاة وتعود لي بهذَا الحلم الأسطوري الذي غمَرني سلامًا وسكينة.

“جدّي، حلمتُ أنّ السمَاء من الفطر السحري الأحمر*، داخل مكعبات وكل مكعب يتحرك. والسمَاء في شدّة زرقتها، والفطر في شدّة الحمرَة”، نظر في عيني بعدها بكُل عمق وخشوع وحُب، أذكر كلماته و تفسيره الذي طار بي لسمَاء الفطر، أذكر دهشته وكأنّي قلت له علمًا أو خبرًا يصدّق فيشكر ويثنَى عليه.

“ماذا يا جدّي!! ماذا يعني؟”

ابتسم، ولم يقل شيئًا، وظللت أسئله حتّى قال: ستفعليها يا ابنتي، ستكوني شيئًا فريدًا بينهم، ستفعليها.

أنا وفي غمرَة إختبارتي حينها، كنت أحلّق فرحًا. نعم، نعم سأفعلها ياجدّي. لم أكن وقتها ولا حتّى اليوم أعتقد بتفاسير الأحلام، لكنّي كنت أعتقد ببلاغة جدّي وفطنته، بجمَال منطقه وحُسن مذهبه.

ويومًا ما عندما غطّى الثلج مدينتي، والدموع عيني، وعتّمت سمائي أغلقت عيني لتمتليء بزرقة سمَاء الفطر تلك، أجدك تقطفها لأجلي، تلوّح لي وتقولها مجددًا، ستفعليها يابشرى، ستفعليها، تلوّح لي حتّى أنام. أستقيظ في اليوم التالي وسمَائي تفتقدك وتكتبك. هذا الحلم الذي أهداه لي ربّ السماء والفطر وغلّفته ياجدّي بكل مايعنيه الحب الإنساني بتفسيرك أكتبه الليلة هُنا لأنّ السماء تبدو رماديّة ياجدّي على كُل من فوق الأرض، ولكنّ سمَاء الفطر السحري أشعّت نورًا من هذَا الرماد. أوّدُ أن تلوّح لهم معي ياجدّي من لازال يقرأنا هنا، ومن هُم بعيدين كل البعد لكنّهم بحاجة هذَا النور 🍄.

وهنَا فايا يونان تترنّم بالحُلم:

نم ياحبيبي الان نم

عن بيتنا غاب الألم 

سترى حين تنام

حلماً حلواً يموج

ألف سربٍ من حمام

سارحاً وسط المروج 

 عندما ألمح ثغرك

فرحاً مبتسمًا

سوف أدعو يا حبيبي

ربي زده حُلمًا 🍄

نم يا حبيبي الآن نم

*الفطر المعروف بامانيت الطائر/الذباب fly amanita

From → غير مصنّف

2 تعليقان
  1. عبدالرحيم النور permalink

    من منا لا يحتاج إلي شمعة وسط عتمة الحياة وقساوتها والسعيد من وجد عود ثقاب يوقد له سمعته وبلده علي الطريق….
    أسلوبك راقي وجذاب وفقك الله

  2. عبدالرحيم النور permalink

    من منا لا يحتاج إلي شمعة وسط عتمة الحياة وقساوتها والسعيد من وجد عود ثقاب يوقد له شمعته ويدله علي الطريق….
    أسلوبك راقي وجذاب وفقك الله

أضف تعليق