سُفورُ الأزِّقَة .. ( بينَ أحْضَان جِدَة القَدِيمَة )

لا آعلم لكن كل شيء تغير … الهواء تغير .. لم يعد شفاف نقي … أصبحت قادرة على رؤية جزيئاته من كثر ماعلق بها… وكأنها أعطتني مقدرةً من نوعٍ اخر … كيف أرى الناس ومالذي يحملونه ويخفونه في نفس الوقت ..لم أطمح يوماً بهذه المقدره ، ولن أستفيد منها كثيراً .. طالما أنني أنا نفسي محملة بالكثير ، المخفي القليل والمعلوم الكثير ..لابأس فهكذا النفس البشرية .. بالرغم من غربتي عندما أقابل بعض البشر وكأنهم ليسوا من جنس البشر .. لكنّ أجمل مافي الزمن أنه يتقلب على كفوف راحة الجميع .. وكلٌ سيرى مايحب ومالايحب أن يراه .. لذلك أيضاً لابأس بهم وعليهم …

كنتُ في الأسواق القديمة بقرب المنطقة التاريخية بجدة.. كانت الأزقة أحجار وتراب تماماً كما لو أنني أمشي في عصر جدتي العتيق … جميلٌ هو الشعور .. أزعجتني النفايات الملقاة في أغلب زوايا هذه الأزقة التي وجدتها أجمل من الأزفلت الأسود … تقاسمت مع أخي صحن من البطاطا الطازجة المقلية (( لأنه نسى أن يحضر لمعدتي الصغيرة صحناً منفرداً)) أكلنا معاً وكنا نتلفت يسرة ًويمنة ً، كما لو أننا غرباء عن هذا البلد .. أعتقد أنني رأيت كل جنسيات العالم في تلك اللحضات ..وهذهِ بعضُ مُشاهداتي :

((الإندونيسي الصغير )) يتحرك بسرعة فائقة ونشاط ملحوظ ، يحمل حقيبته في جوف بطنه (على الخاصرة )..كثيراً مايردد ويدندن كلام مضحك ومشوق .. يحبذ الموت بدلاً من الجلوس في بيته .. أتذكر أنني سألت خادمة خالتي وهيَ في عمري لما لم تكمل دراستها من بعد رحيلها من السعودية .. ولاترجع مرة أخرى للعمل كعاملة .. قالت لا أنا أحب أن أكون خادمة ومهما عملت في حياتي لن أكون أسعد من كوني ماأنا عليه .. سأتعلم وأرجع هنا مرة أخرى أزاول العمل الذي أحبه وأحيا به .. يالله وكأنها لطمتني كفاً من النوع الأزلي .. شكراً لكِ ياهند…

((الأمريكي العملاق))(شعرت بأريحية بوجودي في تلك البقعة عند مرورهم >>كنتُ أعتقد أنني طويلة ولكنني مخطأة حسب مشاهداتي السعودية والأجنبية ))..يحمل حقيبة على ظهره بعيدة كل البعد عن متناول الأيدي وذلك لأنه هو الاخر بعيد كل البعد عن الناس..
((الأفريقي الضخم)) (بالرغم من الرعب الذي يتخلل في ثنايا الأزقة عند مروره لكنه يمثل الأمن بالنسبة لي ،، فأعظم الشخصيات يدفعون لشخصٍ مثله ليحمي أعز ممتلكاتهم ..أهلهم وأنفسهم.وبيوتهم ..

((السوداني المثقف)) .. أراه منهمكاً يقرأ أو ينحني تجاه أطفاله ليأمرهم بلطف أن يلتزموا بالهدوء..((السوري المسلسل)) …ربما لأنني أحب المسلسلات السورية كثيراً فكلما رأيت عائلة سورية أشعر بأنني ممسكة بجهاز التحكم ومعي كوبٌ من الشاي والبوشار يتطاير من فمي في السماء والأرض .. رؤيتهم تسرني كثيراً ( لأنهم مسلسل رائع بالنسبة لي) حتى هم يلحضون نظراتي غير الطبيعية فأنا لست فقط أنظر إليهم لألتفت … أنا أشاهد وبكامل قدرتي البصرية أتجنب رمشة عيني .. ((المصري السعودي المألوف ))… يمتزج كلامه باللكنة السعودية .. ربما ينطقها سخرية ً لكن في عينيه الكثير من الشوق لأمه العظمى مصر .. وأيضاً أرى في عينيه الكثير من السعادة أنه هنا بالقرب من الأراضي المقدسة ومع الكثير من المصريين معه.. فأصبحت السعودية جزأً وقلبٌ نابضٌ اخر لمصر …((الفلسطيني الجاد)) .. يصرخ أينما كان بالرغم من أنه لطيف جداً لكنه جاد وعندما أسمع صوته حتى وإن كان يتحدث فقط فإنه يصرخ … أنا أسكت بالفعل عندما أسمعه فليَ أن أتخيل كم من الصرخات هناك في وطنه .. حرره الله وفرج همومهم وأسكن وحشة قبور أمواتهم …((اللبناني الأنيق)) .. أنيق حتى في الأزقة وكأنه يعرض لدار أزياء أرماني .. بودي أن أهمس في أذنيه .. البساطة البساطة … تراااااب .. وهو يلبس الحذاء ذو النهاية الرفيعة (( وكأنه يحفر الأرض )) وبالرغم من مظهره لكنه ماإن يقف يتحدث حتى أرى تماماً أي الأشخاص هو .. مثقف .. ذو ٣ فما فوق من اللغات .. متخرج من جامعات عريقة في الولايات المتحدة ..هنا وجدت الرابط العجيب … حذائه الأسود اللامع رفيع النهاية يشق له الطريق ..((الهندي الدرامي)) .. كما في الأفلام فهو يصنع الدراما أينما كان .. يحمل ساعات مقلدة يجول بها .. ذهبنا مرتين لنفس المكان وكان هو الدراما نفسها .. تشاجر هو وأختي .. بالأحرى أن أختي لم تعرف أن تسكته .. يدعي أن إحدى ساعاته أفضل من ساعتها التي تلبسها فهي تبدو مرصعة بالألماس وسعرها رخيص .. في نظره ما الذي تنتظرينه.. مرصعة .. ورخيصة .. هيا إشتريها .. بالفعل كان يصرخ بها .. واثقاً من نفسه .. يقترب ويبتعد من الأدب في كل لحضة .. كنت أراقب بصمت .. وأخي ذهب ليصلي .. عندما أستدركت نفسي وأستوعبت أنه موجود قرابة الربع ساعة صرخت في وجهه … إذهب للصلاة … سكت .. وذهب …هذا الجانب المتكرر من الهنود .. لكن الجانب الخفي الواقعي الجليّ لهم .. فهم عباقرة بإختصار .. حتى دراستهم تعد الأفضل منهجياً بالنسبة لدول العالم المتقدمة لكن الفقر وعدم توفر الرعاية في أنحاء كثيرة في الهند كانت من أكبر أسباب هجرتهم للقمة العيش .. ومن أكمل دراسته في الهند منهم فدول العالم تشتري عقولهم وقدراتهم الخارقة في الكثير الكثير من التخصصات …الرائع عندما أرى عائلة لاأعرف أن أحدد تمامًا من أي الدول هم .. لكنني أعدد .. ((إما من المغرب… تونس ..الجزائر..)) لكنتهم تشدني كثيراً .. أصواتهم تذكرني كثيراً بالحروب ..لاأعلم لماذا لكنّ في صوتهم حنين الوطن القديم ..طيبون لدرجة العجب ..يظهر ذلك من تبسهم وأعينهم الغائرة من السعادة .. رؤيتهم تبعث في روحي الكثير من الطاقة … هم أشعة بخيوط من الفضة بالنسبة لي ..((الأردني العنيد)) .. مهما كان رأيك فرأيه الأصح وكلامه الأسلم بالنسبة له .. يتناقش بمنطق لايفهمه الكثير ( لكنني أفهمه 🙂 ) لذلك يصرخ الاخر في وجهه ..بينما يلتزم الأدب ويستغرب تصرف الاخر .. تشع عينيه خبرة .. وتجارب الحياة تظهر في كلامه وإن كان ابن العشرين.

((الباكستاني الملتزم)) .. ماإن أراه أشعر بنداء الإسلام .. بالتوحيد .. بالصلاة .. يستغفر .. ويذكر الله … كنت بجانب محل أحدهم .. لم يستطع الذهاب للمسجد فهو بعيد جداً .. وهو كبير في السن .. عليلٌ على مايبدو على حالة قدميه .. قام ليصلي .. كل ركعة ..كل سجدة .. كنت أشعر بعشرات الندائات من قلبه لله .. الرائع عندما أنهى صلاته .. بكى وهو رافعٌ يديه يهز جسده الكهل كدارس للقران … يبكي بحرقة .. بألم ..بشوق ..ليس لوطنه على ماأعتقد .. بكائه فاق الدنيا ومافيها .. إنه الشوق للقاء الرب .. للجنة .. لعبقها الذي تنفسته في دعواته .((اليمني المتكاثر)) … يالله أعدادهم ماشاء الله هائلة .. وعندما يجلسون فالشلة الواحدة بالعشرات … الواحد منهم يفتح عينيه أكثر حتى يسمع الاخر في الجهة الأخرى من جلستهم … لاتفتح عينيك أكثر لن تسمعهم (( أحدث نفسي))… كثير منهم يتسم بالطيبة .. تجار من الدرجة الأولى .. يسوقون للسلعة البالية أكثر مما يسوق فندي قطعه الثمينة … لايعرف إلا العمل والكد … مر علينا بائع يمني عجوز يبيع الماء .. ويقول .. نحنُ لسنا متشردين .. نحن من تلك الكافيتيريا في نهاية الزقاق ..ويشير على جاكيت قطني أبيض عليه شعار الكافتيريا … وازرته مغلقة بشكل يضحكني حتى هذه اللحظة الزر العلوي مغلق في الشق الأسفل … والعكس صحيح … يعلم أن لاشيء يعيبه طالما أنه لايقف ويشحد المال .. بل هو بنفسه وبقدرته وبإقناعه يوفره لأصحاب المحلات التجارية …

(( الإماراتي الراقص)).. يمشي وتاريخ وثقافة ديرته تسبقه .. كل شيء يرقص حوله عندما يمشي حتى عينيه … ربما دون سبب .. فقط لأنه إماراتي ((ويفتخر )) وله الحق .. أرى إنجازات وطنه تتجلى في عمامته يحملها معه في كل شبر .. لاينساها أبداً .. ويندر أن ترى إماراتي لايلبس دشتاشته وعمامته فهي تحمل الكثير بالنسبة له … ((القطري المستكشف )).. كما هو حالي وأنا أبحث هنا وهناك وأتعرف على شيء جديد في أنحاء السوق وبين البيوت القديمة كذلك القطري … مدهوش من العمارة والبناية من القدم .. من أنه يمشي في عصر قديم جميل .. وفي أماكن أكثر من عمر التاريخ الإفتراضي ..يشعر بأريحية ..ويشعر الاخرين بها ينتمي للسعودية كإنتمائه لقطر ..

((السعودي المستمتع)) …(أنا) إستمتعت كثيراً بتلك المشاهدات .. كما لو أنها تجارب … لكنها مشاهدات … أحلم أنني سأمشي في أزقتهم يوماً ما .. أحمل قلمي ودفتر أوراقي وأكتبهم .. أرسمهم .. أشكرهم .. صراخ أمي يشتت باقي الحلم .. بشرى أرمي صحن البطاطا … وأدخلي المحل … كنتُ أدور وأدور أبحث عن مكب للنفايات .. لاشيء فقط الزوايا … لايمكن أن أرميها هناك .. للتو كنت أنتقد هذه الفعلة … تصرخ أمي مرة أخرى … وبالفعل قررت عدم الدخول معهم .. وبقيت أبحث … للأسف لم أجد إلا صندوق أسميته في مخيلتي ((صندوق النفايات)) ورميته داخله … والصندوق أحد الصناديق المجمعة عند باب المحل التجاري … على الأقل بالتأكيد سيزيحونها عنه بعد أن أستخرج بضاعته منها .. وستأتي البلدية عاجلاً أم اجلاً تنقذ الموقف … هذا إن شربوا حليب السعودية وأتسموا بالشهامة والكرامة والمحافظة على نظافة الوطن وقداسته كما يدعون .. أو كما يحاولون …وتفشل خططهم مع وجود من يقذفون كل شيء في أي شيء إلا مكب النفايات ….

بعض الصور ألتقطتها من خلف نافذة السيارة ،، وجميعها ألتقطت والسيارة متحركة .. أتأسف لعدم وضوحها ودقتها .. وربما الزوايا غريبة بعض الشيء .. 🙂
لم أستطع تصوير السوق لإزدحامه ، سأحاول في المرات القادمة إن شاء الله ..